تدريس الإإن تتدريس العلوم والاهتمام بها، علامة مميزة لتقدم الأمم وتحضرها، ويعد من القضايا العالمية ذات الاهتمام المتزايد حاليا، وبخاصة مع الانخفاض الكبير في مستوى اهتمام ومعرفة الطلاب بالعلوم، وكذلك مع التراجع المتواصل في التحاقهم بالدراسة في الكليات العلمية. وخصوصا العلوم التطبيقية الأساسية كالفيزياء والكيمياء والبيولوجي والرياضيات وعلوم وتقنيات واتجاهات العصر الحديثة المتسارعة، مثل تقنيات النانو (التقنيات متناهية الصغر)، والخلايا الجذعية، وطب التجديد، وهندسة الأنسجة، والذكاء الصناعي، والروبوتات.
وتطرح قضية عزوف الطلاب عن الاهتمام بالعلوم ودراستها وقصور أساليب تدريس العلوم الحالية الكثير من التساؤلات المهمة الجديرة بالاهتمام، من قبيل:
هل تدريس العلوم في مدارسنا وجامعاتنا يواكب علوم العصر والمستقبل وتطوراتها المتسارعة ويتناسب مع المعايير العالمية؟
هل القائمون بالتدريس لديهم خلفية مناسبة عن هذه العلوم وآفاقها الواعدة في كل المجالات؟
كم مجلة ونشرة علمية وبرنامجا علميا في فضائياتنا وموقعا علميا ومدونة علمية لعلمائنا على الإنترنت، يمكن أن تسهم جميعها بفاعلية في دعم تدريس العلوم والاهتمام بدراستها وتحفيز الطلاب على فهم عجائب العلوم؟
وكم من أبنائنا ومعلمينا يعرف عن علوم وثورات العصر والمستقبل الحديثة مثل ثورة تقنيات النانو وثورة الروبوتات والذكاء الصناعي وثورة البيوتكنولوجي (التقنية الحيوية) والخلايا الجذعية وهندسة الأنسجة وطب التجديد، وثورة الفضاء الإلكتروني والتفاعل بين البشر والآلات. وكم نصيب هذه العلوم المستقبلية الواعدة في مقرراتنا ومناهجنا وأنشطتنا الدراسية ومعاملنا للعلوم، وهل تتناسب مع مستويات الطلاب أم لا؟
أليست التكنولوجيا والأجهزة الحديثة التي نستوردها لنستخدمها ونستمتع بها يوميا، هي في الأساس تطبيقات عملية لعلوم ونظريات استفادت منها المجتمعات المتقدمة وحولتها لصناعات واستثمارات هائلة، كم منا يعرف ويفهم كيفية عمل هذه الأجهزة، وهل يمكننا إصلاحها إذا أصابتها أي أعطال بسيطة؟
هناك حاليا عزوف من أبنائنا وطلابنا ومواطنينا عموما عن دراسة والاهتمام بالعلوم، رغم أن عصر الحاضر والمستقبل هو عصر العلوم والتكنولوجيا، أسباب ذلك متعددة، قد تكون أساليب التدريس الجافة المنفرة أو المناهج والمقررات الدراسية أو المعلمون أنفسهم أو عدم ربط العلوم وتفاعلها مع القضايا والتطبيقات المجتمعية (الجانب الاجتماعي للعلم) أو نظرة المجتمع عموما للعلوم ومدى اهتمامه بها.
في كتاب لمعلمي العلوم ومدربيهم، صدر خلال شهر مارس (آذار) العام الماضي، وضمن قائمة الكتب الأكثر مبيعا، عن «الرابطة الوطنية لمعلمي العلوم» في أميركا، الذي توصي به الرابطة ضمن أفضل مواد لدعم تدريس العلوم، بعنوان «علم قوة الدماغ: التدريس والتعلم مع أحداث متناقضة (متضاربة)»، من تأليف البروفسور توماس براين، مدرس العلوم السابق ومدير مركز العلوم والرياضيات وتكنولوجيا التعليم التابع لجامعة بينغهامتون في ولاية نيويورك الأميركية، ويقصد بالأحداث المتناقضة، المهام والأنشطة التعليمية في التدريس التي تأتي نتائجها بصورة غير متوقعة وتثير الدهشة لدى الطلاب، لتساعدهم على الوصول إلى حالة من الانتباه واليقظة وتولد شعورا داخليا ورغبة شديدة لديهم لحل هذا التناقض. وكما هو معروف لدى العلماء أن الدماغ يمكنه تغيير تكوينه نتيجة للحفز والإثارة، وهو تأثير يعرف باسم المطاوعة أو قابلية التشكل. ويشير براين في كتابه إلى أهمية استخدام المعلمين في تدريس العلوم لعنصر المفاجأة، وتحدي تصورات الطلاب المسبقة حول المفاهيم العلمية موضوع الدراسة. كما يؤكد أهمية فهم كيفية عمل الدماغ البشري كجانب مهم من جوانب التعليم الجيد، وأهمية استخدام الحواس المتعددة للطلاب لاستقبال المعلومات ولإشراكهم عاطفيا وإثارة دافعيتهم وحب الاستطلاع لديهم وجذب انتباههم لفترة طويلة، لتنشيط اهتمامهم، وبالتالي يكون التدريس والتعلم أكثر فعالية ويضفي جوا من الحماس والمتعة.
تدريس العلوم لم يعد فقط مقررات ومناهج دراسية جافة ومعامل للعلوم غير كافية وغير مجهزة لا تستطيع ملاحقة تطورات العلوم المتسارعة. بل هو منظومة متكاملة يشارك فيها كل مؤسسات وهيئات المجتمع المعنية بتنشئة وإعداد أبنائنا ومواطنينا علميا على علوم وتقنيات العصر، مثل: وسائل الإعلام، والمكتبات، والكتب العلمية، والمتاحف، والنوادي، والمهرجانات، ومسابقات العلوم والأفلام العلمية، والندوات، والمؤتمرات، وورش العمل العلمية في المدارس والجامعات، واستقطاب علماء بارزين لإلقاء المحاضرات، والتدريس لطلاب المدارس والجامعات في مواضيع بعينها، وأيضا مدى استخدام أساليب الاتصال والتكنولوجيا الحديثة والإنترنت في إعداد برامج وأفلام علمية تسهم جميعها في دعم تدريس العلوم وتشجيع الاهتمام بها والإقبال على دراستها.
فمع التطور المتزايد عالميا في وسائل وأساليب التقنيات الحديثة، وبخاصة شبكة الإنترنت، بدأت الدول المتقدمة في التوجه نحو تطوير طرق وأساليب وبرامج تدريس العلوم ونشر الثقافة العلمية بطريقة تفاعلية ترويحية سهلة ممتعة تشجع الطلاب والناشئة وأفراد المجتمع كافة على الاهتمام بالعلوم ودراستها، وتسهم في الوقت نفسه في دعم الأنشطة العلمية والتعليمية العامة في المدارس بما يتماشى مع خطة الدولة بعيدة المدى للعلوم والتكنولوجيا، وبخاصة اتجاهات العلوم الحديثة التي قد لا تتمكن المقررات والأنشطة التعليمية من ملاحقتها ومتابعتها لتطوراتها السريعة والمتزايدة.